السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يحتفل الفلسطينيون هذه الأيام بالتراث الفلسطيني الذي يقيمون على شرفه فعاليات متعددة مختلفة. ونحن في هذا الصدد نرغب في قراءة مستفيضة للتراث باعتبار أن هذا التراث هو جزء لا يتجزأ من الثقافة السائدة، ويدخل في تكوينها.
لدى طرح موضوع الثقافة على بساط البحث فلا بد لنا أن نتناول المركبين الأساسيين لهذه الثقافة والذين يمثلهما التراث بصفته المركب التاريخي أو ما يسمى بالجذور أو الأصول. والمركب الثاني وهو كل ما ينضوي تحت الإحداثات المعاصرة المتشكلة كمحصلة للمتغيرات التي شملت كافة نواحي الحياة وبخاصة تلك التي تخص كل جماعة إنسانية في معزل عن الأخرى من ناحية، وعبر قنوات اتصالها مع الآخرين من ناحية أخرى.
ويهمنا هنا الإحداثات غير المادية. ومما لا شك فيه أن دراسة ثقافة أية جماعة إنسانية من خلال مركب واحد مما أسلفنا هو بمثابة خروج على منطق الأشياء وجادة الصواب، إذ لا بد من الجمع بينهما.
في حديثنا هنا سوف نتناول المركب الأول للثقافة ونعني به التراث. والكلمة لغويا مشتقة من الإرث، أو ما تركته الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة. والتراث ونقصد به هنا الشعبي بطبيعته يحمل صفات التراكمية والشمولية والجماعية، وتنتفي عنه أية صفة فردية. إن مصطلح التراث يكاد يكون مرادفا للتاريخ إن لم يكن هو الجزء الأهم منه، أو أنه هو الروح النابضة لهذا التاريخ والتي بدونها يصبح مجرد أحداث عبثية.
وكلا التاريخ والتراث يتحدان معا ليشكلا جذور أية جماعة إنسانية، ويفسران بالتالي سلوكات هذه الجماعة في شتى الإتجاهات، ويلقيان مزيدا من الضوء على منظومة اهتماماتها ونظرتها للأشياء وعلاقاتها الإنسانية الداخلية في ما بين أبنائها من جهة، والخارجية مع الآخرين من جهة أخرى، مضافا إلى كل ذلك مدى انفتاحها وانغلاقها وتشددها وتساهلها في قبول الآخر أو رفضه، وتمسكها بعندياتها. وكل هذه الأساسيات تصب في النهاية في بوتقة تحديد شخصيتها الإنسانية الاجتماعية السياسية الثقافية، وتفرز وتبرز معا شكل هويتها الانتمائية ومدى تمسكها وحفاظها عليه.
ثمة مبررات كثيرة تدفع أية جماعة إنسانية للتنقيب عن تراثها والكشف عن كنوز إبداعاته، وإعادة إضاءة فضاءات تاريخها التي حجبتها غيوم بعد المسافات الزمنية بين الحاضر والماضي، إضافة إلى تراكمات شجون الحياة المعاصرة وأشجانها.
في اعتقادنا أن أول هذه الاعتبارات يتعلق بتجسيد الهوية الوطنية الانتمائية إلى الوطن والتاريخ والجماعة الإنسانية نفسها والحفاظ عليها في وجه التيارات الثقافية المعاصرة التي تتهدد ثقافات الشعوب النامية بابتلاعها أو تشويهها أو التعتيم عليها، أو إفقادها العناصر الحية فيها، وبالتالي برمجة هذه الشعوب على أنها مجرد أعداد بشرية مجردة من العطاء والإبداع والتفكير وإبداء الرأي بهدف فرض ثقافة التقليد والتلقي والاستهلاك عليها.
وثاني هذه المبررات يخص الاعتزاز القومي والثقة بالنفس، ذلك أن التاريخ والتراث هما اللذان يمنحان أية جماعة إنسانية عراقتها وأصالتها وعمق تجربتها وغناها، وبالتالي اتساع مساحتها الزمانية المكانية.
هذا المبرر بحد ذاته من الأهمية بمكان كونه يشكل عاملا رئيسا في خلق الشعور الوطني بمعنى التمسك بالوطن والحفاظ عليه والتضحية من أجله. وثالث هذه المبررات أن التراث بحد ذاته ثروة اقتصادية يمكن استغلالها في مجالات وفعاليات معاصرة "في الهندسة المعمارية والبناء والأثاث واللباس والسياحة والأدوات والإبداعات الفنية الأخرى" إضافة إلى كونه يشكل العنصر الأساسي لكثير من المهرجانات السياحية والفنية.
في حديثنا عن التراث أيضا لا بد لنا أن نأخذ كثيرا من الاعتبارات بعين الاهتمام. إن التراث ليس مجرد مخلفات مادية أيا كانت، أو أساليب حياتية أو تقاليد أو قوالب فنية أو ملابس. إنه أعمق من ذلك بكثير، فهو روح الجماعة الإنسانية والطاقة المحركة والدافع إلى الانطلاق والتطور والحفاظ على الهوية والانتماء والتمسك بالوطن. إن الاهتمام به يتعدى كونه مادة ترفيهية سياحية لدعم الاقتصاد السياحي من خلال مهرجانات موسمية وسنوية تقام هنا أو هناك.
كما أننا من منظور تربوي لا نستطيع أن ندرس أبناءنا التاريخ دون التراث. إن التاريخ يكون وعاء مفرغا دونه، ذلك أنه يمنح هذا التاريخ حيوية وطعما ولونا ومذاقا وشكلا. ثم إننا نفترض أن لا يعزل التراث في متاحف خاصة به وأن يغلق عليه إلى حين المناسبات التي أشرنا إليها سابقا.
فالتراث يشكل جزءا من الحياة اليومية أيضا ويتدخل ويتداخل في مساراتها ويغذيها بطاقة الاستمرارية والتواصل. كما أنه ليس بالضرورة الوقوف عند أشكاله القديمة وحرفية تقليدها، فهناك دائما إمكانيات للتطوير والحذف والإضافة والتطعيم والتلوين.
ليس هذا يعني أن تكون حياتنا نمطا تراثيا ذلك أنه من المستحيل إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وإنما ثمة إمكانية معقولة لحياة معاصرة ملونة بالتراث. وثمة اعتبار آخر يخص علاقة التراث المحلي الإقليمي لكل قطر عربي أو إسلامي. إذ لا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يطغى التراث المحلي على التراث الشامل ونقصد به العربي الإسلامي الذي يفترض أن يكون هناك توازن بينهما.
اتمنى ينال اعجابكم
: